يحار المرء، في الزمن العربي الرديء، في تعريف قضية فلسطين. أجل، ماذا تعني قضية فلسطين اليوم؟
هل هي قضية رفع الحصار عن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة؟
هل هي توفير الماء والغذاء والدواء والوقود لهذا الشعب المنكوب؟
هل هي منع المستوطنين المتوحشين من طرد أهل الخليل من بيوتهم، وتمكين الفلاحين في قرى الضفة من جني ثمار زيتونهم؟
هل هي التمديد لمحمود عباس في رئاسة السلطة، أم إجراء انتخابات رئاسية جديدة في موعدها؟
هل هي مصالحة فتح و«حماس» أم إجراء مصالحة عامة بين كل الفصائل؟
الحقيقة أن قضية فلسطين تعني اليوم كل هذه الأمور وغيرها أيضاً، علماً بأن كلاً من هذه الأمور يشكّل أولوية لا تحتمل التأجيل. ومع ذلك فإن أياً منها لا يجد طريقاً إلى حلٍ أو تسوية.
لماذا تشعّبت القضية وتشظّت مواضيعها وترهلّ العمل في سبيلها؟
ثمة أجوبة كثيرة عن هذه الأسئلة. لعل الجواب الأكثر شيوعاً وصدقية هو أن السلطة أضحت أعلى من القضية. حسابات السياسة والمصالح طغت على حسابات الجهاد ومقتضيات المواجهة. المساومة تقدّمت على المقاومة.
لا أقول إن أحداً من أبناء القضية تقصّد أن تنتهي الأمور إلى ما انتهت إليه. لكن الواقع يفصح عن حقيقة جارحة هي أن أصحاب القضية فقدوا سيطرتهم بالكامل على ظروفها وباتوا أسرى مسار انحداري خطير.
سبق تقدّم السلطة على القضية مسألة أخرى أشد خطورة هي فقدان مركزية قضية فلسطين في الحياة العربية. لهذه النتيجة البائسة أسباب كثيرة، لعل أبرزها اثنان:
الأول، نشوء قضايا أخرى لا تقل عنها خطورة في لبنان والعراق والسودان واستحواذها على اهتمام المعنيين، مسؤولين ومواطنين.
الثاني، فقدان المرجعية. ذلك بأن قضية فلسطين وجمهورها المحلي والعربي والعالمي عرف مرجعية لها في كل المراحل. كان الحاج أمين الحسيني مرجعية عليا لها لجيل كامل قبل أن يحلّ محله ياسر عرفات. «أبو عمار» جمع في شخصه قيادة المقاومة ومرجعية السياسة وسطوع الإعلام والعلاقات العامة.
بغياب عرفات غابت القيادة والمرجعية معاً، بل تعددت القيادات الساعية إلى ترفيع نفسها إلى مستوى المرجعيات.
لا مركزية اليوم لقضية فلسطين ولا قيادة لمقاومة الشعب الفلسطيني ولا مرجعية سياسية له، ولا حضور سياسياً وإعلامياً كما كان الأمر في زمن عرفات.
كان الأمر ليهون لو أن المؤسسات سدت غياب المرجعيات. لكن الواقع أفصح مرة أخرى عن أن المؤسسات وأبرزها منظمة التحرير كانت مجرد أداة للقيادات، وأنها بغياب القيادة العليا، ياسر عرفات، فقدت انتظامها وفعاليتها وتشظت هي الأخرى مع انهيار التوافق الوطني الفلسطيني.
لا جدال في أن للعدو المزدوج، إسرائيل وأمريكا، دوراً فاعلاً في اصطناع عقبات وعراقيل وأجواء ومناخات أسهمت بدورها في تصديع البناء الفلسطيني. لكن، هل كان الفلسطينيون لينتظروا من العدو غير هذا الذي صدر عنه وأكثر؟
لا يجوز أن ننسى أبداً الخطأ الاستراتيجي القاتل المعروف باسم اتفاقات اوسلو. المصالحة المبكرة مع العدو حوّلت المقاومة بالضرورة إلى مساومة. جعلت السلطة في مستوى القضية، وبعد عرفات جعلتها أعلى من القضية ذاتها.
يقال دائماً: ما دخلت السياسة شيئاً إلاّ أفسدته. الحقيقة أن السياسة لا تفسد بالضرورة بل السلطة، لاسيما السلطة الفاسدة، هي التي تفسد وتدمر. السياسة ضرورة حياتية من حيث هي ممارسة يومية لا بد منها لمطلب الإدارة والتدبير والتوجيه الصالح. لكن السلطة، عندما تنحرف عن المضمون النبيل للسياسة كما جرى تبيانه آنفاً، تصبح عبئاً بل واسطة فساد وإفساد.
زاد المشكلة تعقيداً إن اتفاقات أوسلو أوجدت سلطة. لكن كان من المستحيل، في ظلها، إيجاد معارضة. ذلك ان «فتح» المسيطرة على منظمة التحرير تصرفت بمنطق الحزب الواحد ولم تفسح في المجال أمام القوى السياسية الأخرى لمشاركتها السلطة بمعناها الراقي وبما تفرضه الظروف الاستثنائية القائمة من قرارات ومؤسسات.
هذا الخطأ، بل الخطيئة، استولد حاجة لتجديد المقاومة فكانت «حماس» والجهاد الإسلامي، لكن العدو الذي يعرف دائماً كم هي المقاومة مُكلفة له سياسياً وامنياً، حاول إجهاض المقاومة المتجددة بالخروج من قطاع غزة، الأمر الذي أوجد حالاً سياسية جديدة تتصف بأمرين. الأول، «كيان» سياسي في القطاع منفصل جغرافياً عن توأمه في الضفة الغربية ما أدى إلى شكل من أشكال الندية والمنافسة. الثاني، وجود قوي، شعبي وقتالي، لحركة «حماس» في القطاع يمكّنها من مضاعفة فعاليتها وبالتالي صدارتها للكفاح الفلسطيني العام.
بعد أوسلو وقع قادة السلطة الوطنية الفلسطينية، أو بالأحرى أخفق هؤلاء في تفادي الوقوع، في خطأ تحويل السلطة إلى نظام. لكن، للأسف، هذا ما حدث إذ تحولت السلطة نظاماً يحاول قمع «حماس» بما هي مقاومة في وقتٍ لا تسمح الظروف الصعبة لهذا «النظام» بأن يمارس صلاحياته في ظل احتلال صهيوني بالغ الشراسة.
إذ حدث ما حدث في قطاع غزة، فقد أصبح الفلسطينيون يعيشون، واقعياً، في كيانين منفصلين، يتنافسان ويتقاتلان دونما طائل.
غير أن أسوأ ما حلّ بالقضية الفلسطينية من سوء هو عودتها إلى قبضة الحكومات والحكام. يشارك هؤلاء في إغلاق معابر الغذاء والدواء ويتوسطون لفتح معابر التواصل والوفاق.
كان عرفات ورفاقه يكافحون من اجل انتزاع الحق في صنع القرار الفلسطيني المستقل. في هذا السياق جرت السيطرة على منظمة التحرير. أين اليوم القرار المستقل في المنظمة كما في السلطة؟
ينهض من جديد السؤال الخالد: ما العمل؟
جوابنا الدائم هو: عودوا إلى الشعب الفلسطيني. هذا الشعب الاستثنائي، بصبره وصلابته ومقاومته، يستحق انتخابات تأسيسية حرة لمجلسه الوطني، داخل فلسطين وفي الشتات، من اجل أن ينبثق من صفوف قواه الحية ممثلون شرعيون لإرادته وتصميمه على المقاومة، وقيادة جديدة لمنظمة التحرير تعيد بناء القضية والمنظمة في آن معاً، بل تعيد بناء مركزية القضية في الحياة العربية والإسلامية.
هل من سبيل آخر؟
بقلم عصام نعمان نقلا ً عن القدس العربي