بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
*************
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين ... وبعد
نود فى موضوعنا هذا أن نلقي الضوء على :
معنى السُنة، وما المقصود بها.
السُّنُّة هي: الطريقة، سنة فلان بمعنى: طريقة فلان في الحياة، سواء كانت هذه الطريقة محمودة، أم مذمومة،
فكلمة سُنة لغة تعني: طريقة فلان، فإن كانت طريقته محمودة، فهذه سُنة محمودة، وإن كانت طريقته سيئة، إذن هذه سُنة سيئة، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه:
[قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا
فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ] {الأنفال:38}.
سُنة الأولين المكذبين الذين كذبوا بأنبيائهم، ورسلهم فكان عليهم العذاب والهلكة.
الرسول يقول في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن جرير
بن عبد الله وأرضاه يقول: قال رسول الله :
"مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَتْ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ."
فالسُنة هي الطريق، فمن فعل شيئًا حسنًا، وقلده الناس يأخذ من الأجر ما لهذا العمل، ويأخذ مثل أجور كل من قلده في ذلك العمل، وأيضًا من يفعل شيئًا مذمومًا، نفس الكلام يندرج عليه، لهذا فإن الرسول يأخذ حسنات على كل أمة الإسلام والمسلمين، فكل من يعمل خيرا في الإسلام، فهذا إنسان يقلد رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ومن ثَمّ يضاف لحسناته، نسأل الله عز وجل أن يلحقنا به في أعلى عليين.
إذن عندما نقول سُنة الرسول ، فإننا نقصد طريقته، ومنهاجه،
وأسلوبه في الحياة ، ولا نقصد هنا السُنة كما عرفها الفقهاء، وهي: ما ثبت عن النبي من غير وجوب، أي النوافل.
الفقهاء قسموا الأحكام التكليفية التي كُلف بها البشر
إلى خمسة أقسام :
واجب، وحرام، وسُنة، ومكروه، ومُباح.
ولما نتكلم عن موضوع السُنة فليس المقصود بالسُنة النافلة، ولكن المقصود بالسُنة كما عَرّفها علماء الأصول، قالوا:
السُّنة: هي كل ما نُقِل عن رسول الله من قول، أو فعل، أوتقرير.
فكل ما نقل عن رسول الله ، حتى لو كان المنقول فرضا أو سنة،
لا فرق ما دام قد نقل عن رسول الله ، سواء كان يسمى فرضا ً
أو يسمى نافلة، أصبح اسمه سنة الرسول .
القول، أو الفعل، أو التقرير، ويقصد بالقول: أيّ كلمة تكلمها ،
فمثلًا قال : إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ. فأصبحت سُنة الرسول ،
قال: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا.
فأي حديث قاله ينطبق عليه هذا التعريف.
ويقصد بالفعل مثل ما نقله الصحابة عن رسول الله من أفعال
فعلها، كأداء الصلاة، كان يصلي الظهر أربع ركعات، كل ركعة يقرأ الفاتحة، وكل ركعة يركع، ويسجد، من حركة لحركة يقول: الله أكبر. وفي رفعه من الركوع يقول:
سمع الله لمن حمده. وكل ما ذكرناه عن النبي فيه ما هو فرض،
وفيه ما هو نافلة، لكن كل هذه الأشياء تدخل تحت تعريف أفعال الرسول، وبالتالي كلها سُنة من سُنن الرسول .
ويقصد بالتقرير: شيء أقره الرسول ، بمعنى أن صحابي من الصحابة فعل شيئًا أمام الرسول ، والرسول سكت عنه، ولم يتكلم، فأصبحت سنة؛ لأن الرسول لن يسكت عن باطل.
أو أتى أحد الصحابة بشيء، واستحسنه الرسول ، فأصبح هذا
العمل سُنة؛ لأن الرسول مدح هذا الفعل، حتى ولو لم يفعله
الرسول .
فالسُنة من هذا التعريف: هي كل قول، أو فعل، أو تقرير، والأمثلة لا تحصى؛ لأن الأمثلة كلها عبارة عن حياة الرسول بكاملها، فكل كلمة خرجت من فمه ، وكل حركة تحركها، وكل سكنة سكنها صلى الله عليه وسلم، أي ابتسامة ابتسمها، وأي غضبة غضبها ، وأي أمر حدث أمامه وسكت، أصبح سنة، وكل أمر حدث أمام الرسول ، ونهى عنه يصبح عكس السُنة.
فأنت مطالب أن تعرف كل حياة الرسول لتكون متبع لسُنة الرسول .
نؤكد مرة أخرى أننا لا نقصد بكلمة السُنة النوافل، بل نقصد منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وطريقته في الحياة.
وهناك ظاهرة غريبة جدًا ما تكررت في حياة أي إنسان على وجه الأرض، إلا في حياة رسول الله ، وهي أنه ليس في حياته مطلقا أي سر، ليس في حياته سر، فكل حياته مكشوفة أمامه لنتعلم كيف نقتدي به، ونقلده، ولعل هذا هو أحد الحكم التي من أجلها تزوج الرسول من إحدى عشرة زوجة، هو لم يجمع أكثر من تسعة في وقت واحد، لكن هذا العدد هو الذي ينقل كل صغيرة وكبيرة في حياة الرسول ، كانوا يعيشون معه في البيت، فرأوا كل شيء داخل البيت، زوجة واحدة لا تسطيع أن تنقل كل هذا الكم الضخم من معاملاته، ومن الحياة الشخصية التي داخل بيت رسول الله ، والله عز وجل يريد لحياته بكاملها أن تكون مكشوفة، ومعروفة للأمة، وكل نقطة في حياته ستضيف شيئا جديدًا.
وبذلك لم يبق أي خبر في حياة الرسول لا نعرفه، فكل شيء معروف، وبذلك نستطيع أن نحقق قول الله سبحانه وتعالى
[ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرً] {الأحزاب:21} .
إذن سُنة الرسول هي الحياة بأسرها, له سُنة صلى الله عليه
وسلم في كيفية الاعتقاد في الله عز وجل، ولا بد أن نعتقد في الله كما علمنا رسول الله ، ولو خرجنا عن طريقته لضللنا, له سنة في الشعائر، ويقصد بالشعائر: الصلاة، الزكاة، الصيام، الحج، قيام الليل، قراءة القرآن، له سُنة في كل ذلك لا بد أن تُتّبع, له سُنة في طلب العلم, له سُنة في نقل هذا العلم بضوابط معينة لا بد من السير عليها، وهذه الضوابط ليست نوافل وفقط، بل هناك فروض كثيرة جدا, له سُنة في الدعوة، طريقة في امتلاك قلوب الآخرين, طريقة في التأثير عليهم، والوصول إليهم بدعوة الله عز وجل، له سنة في الطعام، والشراب، والذبح، والصيد، ولا يقصد بسُنته في الطعام أن يقصد طريقته في الأكل فقط، بل هناك أكل حرام حرمه الرسول ، ولم يأت تحريمه في القرآن الكريم، فأصبح حرام، فالسُنة شيء خطير فيها حلال، وفيها حرام، فيها أوامر، وفيها نواهٍ، ليست شيئًا اختياريًا نأخذ منها ونترك كما نريد.
الرسول كانت له سُنة في البيوع، والتجارة، والزراعة، والشركات، قوانين، وتشريعات، وأصول ينبغي على كل تاجر معرفتها، كانت له سُنة في القضاء، وفي فض النزاع، وفي الفصل في الخصومات, له سُنة في الجهاد، والقتال، والغزوات، والعلاقات مع العدو، متى تحارب ومتى تعاهد, له سُنة في التعامل مع زوجاته، ومع أولاده، ومع أصحابه، وجيرانه، وضيوفه، حتى مع أعدائه، سُنة في كل شيء من الأشياء التي تواجه الإنسان المسلم في كل حياته.
لذا نستطيع القول بأن حياة الرسول كلها ذات أهمية، ولم يكن
في حياته أشياء خاصة، وأشياء عامة، فكل شيء قاله، أو فعله، أو أقره، هو سُنة من سُننه ، فنحن لا نتكلم على حياة إنسان، أو تاريخ إنسان، نحن نتكلم عن دين، نتكلم عن شرع، عن قانون متكامل، عن دستور محكم، نتكلم عن وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى، وهذا هو المقصود من السُنة في الحديث الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله، وابن ماجه عن العرباض بن سارية
وأرضاه قال : وعظنا رسول الله موعظة ذرفت منها العيون،
ووجلت منها القلوب، قلنا: يا رسول الله، إن هذه لموعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال:
قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلِهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ.
تركتكم على البيضاء الملة الواضحة النقية، لا يوجد فيها شيء واضح، وشيء مبهم، بل كلها بيضاء، ليس فيها ليل أسود، بل كلها نهار ساطع أبيض، وبعد هذا الكلام يحذر النبي تحذيرًا خطيرا جدًا فيقول: مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا.
من يطل به العمر سيرى اختلافا كثيرا، كزماننا الآن، فما العمل عند الاختلاف، الشرق يقول كذا، والغرب يقول كذا، والمسلمون أنفسهم منهم من يقول كذا، أو كذا، أو كذا، اختلافات، وآراء، ومدارس،
ما العمل؟
مليون رأي، من يقول: إن الباليه فن راقي، وأن ما فيه من العري، والمناظر الجنسية الغير لائقة نوع من قمة الإبداع الفني الجميل.
ومن يقول: الرشوة إكرامية، أو عمولة، أو سمسرة، ومشي حالك، وكَبّر دماغك. ومن يقول: إن كان لك عند الكلب حاجة قل له يا سيدي. وتسمع أمثلة ما تدل إلا على السلبية المقيتة كمن يقول: (ملناش دعوة يعني إحنا اللي هنصلح الكون يا عم أنا مالي خليني في حالي)
وكل فريق من هؤلاء لديه حجة، وعنده منطق، ومن الممكن أن يجادلك ساعة وساعتين، فما العمل عند الاختلاف؟
الرسول يقول:
مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي.
ولا يعقل أن تكون معنى السُنة في الحديث النافلة، بل معناها طريق الحياة، منهج الرسول، كل أمر من أمور الدنيا كلها.
فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ.
الخلفاء الراشدون سيدنا أبو بكر، وسيدنا عمر، وسيدنا عثمان، وسيدنا علي رضي الله عنهم أجمعين.
فإذا تعرض لك أمر في حياتك، ضع مكانك الرسول ،
أو أبو بكر، أو عمر، أو عثمان، أو علي، ولتنظر ماذا ممكن أن يفعل لو هنا، كحفلة بالية مثلا، هل كان سيحضرها الرسول ؟
هل كان من الممكن أن يسلم على الراقصين والراقصات، ويوزع هدايا؟ ويقول: ما شاء الله على الفن الجميل، والإبداع الراقي. أم كان سيمنعها ويحرمها؟
تخيل أنه مكانك، وفي وقتها ستعرف الإجابة.
هذا الكلام ليس سهلًا، بل من الصعب بمكان؛
لذا قال الرسول : عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِزِ.
تمسكوا بكل ما تملكون من قوة، ومن عزيمة بهذه السُنة، وبسُنة الخلفاء الراشيدن المهديين، وإذا كان التمسك صعبًا، إلا أنه ليس مستحيل، عضوا عليها بالنواجز، تمسكوا بها، بكل طاقة عندكم.
إن السُنة التي نريدها هي التي جات في الحديث الشريف الذي رواه الحاكم، والبيهقي، وابن عبد البر، والإمام مالك عن عمرو بن عوف وأرضاه قال: قال رسول الله :
تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كَتَابَ اللَّهِ، وَسُنَّتِي.
فالسُنة في هذا الحديث ليس المقصود بها النافلة، بل المقصود بها حياة الرسول كلها.
وفي فهمنا لهذا المعنى الدقيق للسُنة نستطيع أن نفهم الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة وأرضاه وقال فيه :
كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى.
قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى أن يدخل الجنة؟
قال: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى.